السيدة العميدة عزّة الريح هي نجلة عالم الفلك الشهير د. الريح العيدورس السنهوري وهو أول من نال درجة الدكتوراه بالسودان، كما وأنّه من أوائل حامليّ درجة الإجازة العالميّة من الأزهر الشريف. نشأت بيت علم وصلاح وتقوى، وترعرعت في حي العباسية العريق الذي كان بوتقة انصهر في رحابها الكثير من أهل السودان. كانت تسكن مع أسرتها على مقربة من كبار أعلام السودان وعلمائه: جدّها الشيخ الصلحي والد الرّسام العالميّ إبراهيم الصلحيّ وهم من أسرة القاضي عربي، الذي كان من أوائل القضاة بالسودان؛ ومن الحضور الزاهر بحي العباسية كانت أسرة الشيخ أحمد إبراهيم والد الشاعر المرحوم صلاح أحمد إبراهيم وآخرون. تزوجت من رجل الأعمال والسياسي بحزب الأشقاء د. بدوي مصطفى الذي كان عمودا فقريا من أعمدة النضال ضد الاستعمار كما عمل كوزير للتربية والتعليم في عهد الديموقراطية الأولى بالبلاد بحكومة سر الختم الخليفة. § رائدة من رائدات التعليم بالسودان. إنّ السيدة عزة العيدروس، هي دون أدنى شك، إحدى رائدات التعليم ومن أوائل نساء السودان اللائي نادين بحرية المرأة في كل المجالات وبفك كل القيود التي تحكم تقدمها وتُكَبِّل كرامتها. كانت شمعة تضئ لكل الأمهات وما زالت؛ تعلمن منها حبّ العلم، والزود من أجله، كما تعلمن منها المثابرة الدؤوبة من أجل رفعة سودان المستقبل وفعل الخير للآخرين والجهر بالرأي وفوق هذا وذاك أن التعليم هو الألف والياء في حياة الإنسان إن أراد لنفسه التقدم والازدهار. فمن أولئك نسوة كثيرات ممن سمين بناتهن باسمها تيمنّا، فمنهنّ من سماها عزة، عازة أو العازة كل حسب بيئته وما سلق عليه. § بيت الملازمين قبلة للسائلين . كان بيت العميدة بالملازمين قبلة لطلاب العلم، المرضى والمعوذين والنازحين والفقراء والجائعين وسالكيّ درب الله في أمور الدين والدنيا. لم تتوانَ لحظة واحدة في أن تحتضن كل هؤلاء كما أنها احتضنت في حدقات عيونها أبناء وبنات أخواتها وإخوانها وتبنت إبناء وبنات أسرة زوجها الذين أتوا من كل فج عميق من أنحاء السودان وحتى من خارج السودان. فربتهم وعلمتهم وكونت منهم أجيالا استطاعت أن تثبت وجودها في الحياة العملية بالسودان. فبعد وفاة والدها شيخ الريح قامت على شؤون مدارسه التي كانت تُعنى بالبنين بدأبها وعملها. فكانت تدير أولا المدارس بالعباسيّة وفي أوائل السبعينيات أهدى له الرئيس السابق جعفر نميري قطعة أرض عمرّها زوجها بحرّ ماله وعرق جبينه وذلك في عام ١٩٧٤، وجعلا منها صرحا لتعليم البنات في مرحلة الثانوي العام وكانت هذه رسالتها ومهمتها طيلة حياتها. كان يختلف إليها بنات الأسر من ذوي الدخل المحدود من كل أنحاء أمدرمان فكانت العميدة أُمّا رؤوما للأسر وللبنات على حد سواء. كما جعلت هذا الصرح بيتا للعلم واتاحت الفرصة للكثيرين من أبناء اسرتها وبناتهم ومعارفها حتى ينطلقوا في مجال التعليم وأن يتدربوا على يدها كمعلمين، فأنارت لهم الطريق وعبّدت لهم السبل بتفاني ونكران ذات. كان منزل العميدة رحمها الله وقلبها، وحتى آخر أيّام من رحيلها، قبلة لكل الناس ولم توصد الباب دون أي شخص فكان مفتوحا سيما لبني وبنات أخواتها ولأهلها وكان مجلسها بالملازمين يرحبّ بكل سائل وبكل ذي حاجة. وتمكنت بحمد الله وعونه من فتح مرحلة الثانوي العالي للبنات في أوائل الثمانينات من القرن المنصرم. § ذكرى وفاة هذه المرأة العصاميّة بشهر رمضان § وقفت كثير مع نفسي أسائلها عمّا ينبغي أن يُكتب في ذكرى هذه المرأة العصاميّة. فوجدت أن هناك حلقة مفقودة بين حلقات حياتها لم يتم التوثيق لها ألا وهي حلقة الألم الكبير الذي عاشته هذه السيدة في آواخر سنوات حياتها. نجد أغلبنا نحن السودانيون يجهل أو يتجاهل مسألة فتح ملفات نزاع قديمة، مما في ذلك من نتائج سلبية في تفاقم سوء التفاهم بين الأحباب والرفقة أو بين النّاس على العموم. عجيب أمرنا أن نتقابل ونتحدث مع بعضنا البعض وكأن شيئا لم يكن وكل ذلك في الظاهر حتى لا يفقد أحدنا ماء وجهه أمام العباد. بيد أنّه بدواخلنا أمور أخرى شائكة وغامضة، فالقلوب في غرارتها تمور وتفور. لقد كانت أمنية العميدة أن تُعالج هذه الأمور بالحديث عنها وفيها وألا يخشى أحد المعنيين المكاشفة أو الاصطدام الحاد فالارتطام البارد أخطر وأمرّ. نجد الأوربيين في هذا الشأن مختلفون عنّا كل الاختلاف فعندهم الصدق والصراحة وهذا علاج ناجع لجروح القلوب بعد انكسارها ولضمد الجراح بعد غورها سيما بين الأحباب. أعلم أن كلمة الحقّ حارقة عندما تستند إلى حقائق صادقة وأدلة دامغة تؤول الحق لمن يستحقه ويستعر بها كل من أراد أن يأكل اللقمة باردة دون مثابرة أو دأب. تعزى وعكة العميدة البالغة ووفاتها على فراش العافية لهذه القضية إذ تضافرت أيادي عدّة ضدها مما كان له بالغ الأثر في نفسها المرهفة، فتركت أمرها لله وبعدها أطلقت العنان للروح حتى تعلو إلى برزخها وهي في وحدة ووحشة إلا من أبنائها وأحفادها والقلائل ممن أحبوها وأحبتهم ومن ثمّة قائلة: وداعة الله عند الرسول وداعة الألف الما بتنتلف. § فراق محزن يعكسه انكسار النفس. فارقت العميدة دنيانا منكسرة النفس راضية مما سببه انقطاع بعضهم عنها سيما من أولئك الذين وقفت عمرّها كله تصارع من أجلهم. نعم، إن من أسباب الوعكة التي سببت لها الأذى، هو عداء بعض النّاس لها، واتهامهم إيّاها بأنها أخذت حق البعض فيما يخص الصرح التعليمي الذي خُلق وأُسس من أجل تعليم بنات السودان لا من أجل أن يُجعل منفعة لفلان أو علان. الجدير بالذكر أن هذا الصرح عندما بُنى في بداية السبعينيات كانت هي الوحيدة التي بنته وأسسته وأقامت أعمدته بحرّ مالها ومال زوجها ومن ثمّة جعلت تسعى بين مؤسسات الحكومة، هي وزوجها ولا أحد غيرهما لإتمام المهمة. لم يساهم أي شخص، لا بماله ولا بجهده، لا في تكاليف البناء، لا في التأسيس التعليمي للصرح، لا في تسيير الإدارة لا في دعم الطالبات.